عام 1987 دعتني وزارة الثقافة العراقية للمشاركة بمهرجان المربد الشعري، وكانت المرة الأولى التي أغادر بها غربتي لزيارة وطني العراق.
صحيح أنني لبناني، ولكنني أعتبر أن كل البلدان العربية هي أوطاني، رغم الحدود واختلاف اللهجات، وبطش الحكام. فانا مهما ابتعدت ما زلت من ذلك التراب المقدس، لذلك عندما وطأت قدماي أرض العراق قبلتها بشغف، كما تقبّل الأم جبين وحيدها العائد بعد غيبة طويلة.
وأذكر أنني ألقيت في مسرح الرشيد قصيدة بعنوان "أرض العراق أتيتك" دمجت بها جميع الأنواع الشعرية بما فيها العامي اللبناني، وأترككم مع الموزون منها:
لُبنانُ، يا بَغْدادُ، كَمْ سَنَةٍ
يَقْتاتُ مِنْ أَكْبادِهِ الأَلَمُ
هَلْ يَنْتَهي الإنسانُ في وَطَنٍ
كانَتْ تُناغي أَرْضَهُ الْقِيَمُ
أَعْداؤهُ الأَوغادُ هَمُّهُمُ
أَن يُسكِرَ المُسْتَنقعاتِ دَمُ
أَوصافُهُمْ، إن شِئْتِ، أَكْتُبُها
كَيْ تَعْلَمي كَمْ يَخْجَلُ الْقَلَمُ
واذكر أن تلك القصيدة لاقت التصفيق الحاد، وكان التلفزيون العراقي ينهي نشرته الاخبارية بها لمدة أسبوع تقريباً.
هذا هو العراق الذي عاش ويعيش في ذاكرتي: فنادق فخمة، مسارح واسعة، طرقات معبدة، شعب طيّب ومضياف، شارع المتنبي ومكتباته الغنية بالفكر الرائد، وأعراس مساء الخميس من كل أسبوع، التي كانت من أجمل الأعراس التي شاهدتها، لا بل شاركت بها رقصاً وغناء.
ورغم تتبعي للأحداث الدامية التي وقعت وتقع في عراقنا الحبيب وجدت أن كلمات المؤلف قد أثرت فيّ كالأحداث تماماً، ولم أتمالك نفسي بل رحت أبكي كطفل صغير، بعد ان تمكن الأب يوسف جزراوي من أن يسكب دموعه الغزيرة في عينيّ، وخلجاته المؤلمة في صدري، إذ أن كل كلمة قرأتها في كتابه كانت موجعة الى حد التأوه والصراخ.
بغداد التي يناجيها لم تكن بغداد التي ناجيتها أنا. بغدادي كانت ترفل بفساتين الأعراس، وبغداده مزنرة لا بل مغطسة بالسواد، لدرجة الابتلاع. صحيح أنه يعيش مكرّماً في غربته، لكنه يرفض استبدالها بعروس الشرق بغداد كما يحلو له أن يسميها، فلنسمعه ينوح:
"يوم غادرت عاصمتي وبلدي، شعرتُ أنَّي فقدتُ جزءًا من روحي وجذوري وهويتي العراقيّة من دون مشيئتي، ويوم أكتب كلمة حُبّ حُرّة بنّاءة " لبغدادي"، أشعر أنني استرد عراقيتي بمشيئتي".
بغداد رغم الألم الذي تعيشه هي عنده حلم عودته، لذلك نجده طوال الوقت يفتّش عن شراع يبحر بسفينته المتعبة الى برّ العراق الآمن الأمين:
أغور في الغربة،
ملامح الغريب في وجهي
احيا يتيم الوطن في قارة نائية.
تركتُ في العراق
قبطان سفينتي وساريتي
وأنا كسفينةٍ تائهة،
ابحث عن شراع،
وجهتي بغداد
للعودة إلى ارضي
حيث جذور الأجداد.
أليس مؤلماً حقاً أن تدرك أن الأب يوسف جزراوي لم يشعر بالعيد خارج بغداد؟ وأنه يرفض الغربة برفاهيتها وسلامها وأعيادها من أجل عيني بغداد؟ لذلك قرّر أن يبني من كلمته مركباً، ومن حروفه مجذافاً، ليبحر الى مسقط رأسه، علّه يتنعم بفرحة العيد:
ابحر في كلمتي،
حروفي المِجذَاف
كنيتي جواز عبوري،
إلى مسقط رأسي؛
حيث العيد
والفرح وطيّبة الناس.
منذ سنة كتبت قصيدة بعنوان "بغداد أنت حبيبتي" لحنها وغناها المطرب العراقي المعروف اسماعيل فاضل، أذكر منها:
بَغْدادُ أنْتِ حَبيبتِي.. لا تَخْجَلي
منذُ الوُجُودِ، خُلِقْتِ يا بَغْدادُ لي
أحْبَبْتُ وَجْهَكِ.. وَالْغَرامُ حِكايَةٌ
مِثْلَ الدِّماءِ تَدَفَّقَتْ بِمَفاصِلي
لَوَّنْتُ بِالشَّفَقِ الْجَميل شَوارِعاً
خِلْتُ الشَّوارِعَ أمْسَكَتْ بِأنامِلي
كَمْ مِنْ قَصائدِ حُبِّنا غَنّى الْهَوَا
وَتَشامَخَتْ فَوْقَ الرُّبوعِ مَنازِلي
قَسَماً بِحُبِّكِ.. إنْ تَكَحَّلَ مَوْطِنٌ
إلا بِدَمْعِ الْعَيْنِ لَنْ تَتَكَحَّلي
لا لَسْتُ أَنْسى يَوْمَ جِئْتُكِ مُغْرَماً
وَتَراقَصَتْ قُرْبَ الفُراتِ جَداوِلي
وَتَهامَسَتْ أَمْواجُ دِجْلَةَ: ها أنا
ماءُ السَّعادَةِ.. غُبَّنِي بِتَمَهُّلِ
أَوْدَعْتُ فيكِ طُفولَةً يَحْلو لَها
أن تَسْتَبيحَ عَواطِفي وَتَأَمُّلي
إسْمِي على شَفَةِ الصباحِ كَتَبْتُهُ
إبْنُ العراقِ أنا.. أنا.. إنْ تَسْأَلِي
مَهْما ابْتَعَدْتُ.. لَنْ أُطيلَ تَشَرُّدي
فَتَأَلّقي، وَتَزَيّنِي، وتَدَلَّلِي
إِنِّي أُصَدِّقُ بَيْتَ شِعْرٍ رائِعِ:
"ما الْحُبُّ إلاّ لِلْحَبيبِ الأوَّلِ"
فوجدت أن الأب يوسف جزراوي قد بزّني في حبّ بغداد، وأجبرني على مراجعة كل ما كتبت، كيف لا وهو البغدادي أباً عن جد، وما يعتمل في صدره من أشواق، قد لا يعتمل في صدر أي شاعر مهما علا شأنه. الحب ينبع من الصدق، وأبتي الجليل صادق في حبه لمدينته الفاضلة، وكأنه يتعبد لها بعد الله تعالى، لا بل راح يذكرني بتلك الثلاثية الشهيرة: ألله، الوطن، العائلة:
بغداد..
معلقُ أنا بين الأرض والسماءِ
على صليب باتساع مساحتكِ
الليل فيه ظلّ متابدًا
والصباح بقي معصوبًا
صلبني فراقكِ على جُلجلة المنافي
وأنا ما بلغتُ عمر الورود.
هذا من ناحية الحب والمشاعر، أما من الناحية الفنية فنجد أن الكاتب قد استعان بالسجع، وأحياناً بالنثر الشعري، كي يصل الى غايته، وكي يقنع القارىء أن من يناجيها تخضع لها جميع انواع الأدب، كونها منبعاً للآداب على مر التاريخ.
مؤلفات الأب جزراوي كثيرة، متنوعة ورائعة، إذ أنه لم يترك باباً أدبياً إلا وطرقه، ولكن أصدقها على الاطلاق، بنظري، هو هذا الكتاب، فتنعموا بقراءته.
**